على شاشاتِ التلفاز، دَويُّ انفجارات وصفَّاراتُ إنذار، حربٌ ضروسٌ في ذاك الشطر البعيد من الأرض، قلوب دبَّ بها الرعبُ وأفواجٌ من اللاجئين يفرُّون هلعاً خشيةَ الموت، هذا الخوفُ الذي يتملكهم الان عقب سنوات من السلم، أصبحَ من السِّمات الرتيبة في حياة أناسٍ اعتادوا حروباً متواليةً أبت مغادرةَ لبنان، بلدٌ لا يلبث أن يغلق باباً على صراع ليفتح أبواباً على صراعات، فإن لم تكن لغةُ الرصاص سائدةً بيومياتهم، فالانفجاراتُ الهائلة التي لا تُبقي ولا تذر…
متقاعد لبناني، يدعى طارق أبو رسلان، يقطن وعائلته أعالي جبال لبنان الخضراء، ويقود بسيارته المتهالكة متنقلا بين قرى الجبل وهامات الأرز الخائفة بدورها من نيران السجائر وأطماع حارقي الشجر أولئك الذين غادرت قلوبهم الرحمة ولا تعرف الإنسانيّة إلى صدورهم مَسْرَبَاً، يواصل طارق مهنته التي اختارها بعد تقاعده من الجيش يومياً حتى تدرك إطاراته ضواحي العاصمة كي يبيع القهوة والمكسرات في شتى أصقاع الوطن، وظيفة ارتضاها لنفسه وأعقبت عقوداً من الخدمة العسكرية المتفانية، ذلك إنه قد ألِفَ الطرقات سائقاً للمركبة أو من على ظهر دبابة، خدم شعبه حين نودي إلى السلاح ولم يقبل قعوداً بعد إذ أذِن التقاعد خريف عمره، إن سألته ماذا يعني لك لبنان لقال أنا، أنا الوطن الذي هو ساكني، أحترقُ مع احتراق الصنوبر، وأنزفُ مع كل جريح أو إنسان قضى بفعل البارود أو المتفجرات، أبكي لبُكاء شعبي حتى تجف عيوني وتعتصر قلبي معاناةُ قلوبهم من الفقر والحرمان، يقول هذا طارق بوجهٍ سمِحٍ لا يدّخر جهدا ليرسم الابتسامة على الوجوه من حوله فيشيع التفاؤل حيثما حل، هو لن يرحل عن أرضه، لن يغادرها، يؤكد… فكما يقبع لبنان في قلبه، في قلب لبنان سيظل قابعاً حتى فناء الروح…
طارق، العسكري المتقاعد، الوطني الصامد، سليل عائلة خدمت لبنان بإخلاص قل مثيله، شقيق مديرة مدرسة في صليما خرَّجت جيلاً تلوَ الآخر وازدحمت رفوف بيتها بالتقديرات والتكريمات، والأخ لمعلمة في قرنايل أسهمت بتعليم مئات الشبان والشابات من أبناء الوطن فِقْهَ اللغة الأجنبية بكل تفاني، واخته الكبرى التي كانت مؤتمنة على أرزاق الناس لعقود في أكبر بنوك لبنان فأدت أمانتها بكل إخلاص قبل أن تُحالَ إلى التقاعد الذي تستحق عقب سنوات الإخلاص وخدمة الإنسانية، وشقيقه المغترب الذي كانت العائلة في حياته أولوية صارمة على الدوام، لكن قبل هذا وذاك، ابن سيدة فاضلة تولاها الخالق منذ سنوات وقد نذرت حياتها لخدمة أبنائها ومساعدة المحتاجين وحرصت على إبقاء أبواب بيتها مشرّعة أمام السائلين والمحرومين ومَن تقطعت بهم سبل الحياة فكانت لهم حياةً بأسرها، ونجل سيِّد بليغ الكرم طاهر القلب عفيف اللسان حَسَن الخلق نقي السريرة أصيل الفؤاد باسم على الدوام في وجه كل الناس دونما استثناء وقد جعل عمره ذخراً لأبناء أرضه ومن يسأله العون وقاد بحافلته جلَّ حياته لإيصال طلاب المدارس إلى دور أقلامهم في ظروف الحرب والسلم وأحوال الجو المتقلبة وما انفك يحتضنهم بقلبه الكبير الذي يتسع لجميعنا، وزوج المُدَرِّسة الكريمة الخلوقة الفاضلة التي لم تترك صفَّها يوماً دون تأكدها من أن طلّابها قد تعلّموا دروسهم بإتقان وما بخلت عليهم بالحنان حنوَّ الأم على فلذات كبدها… هو طارق أبو رسلان، مثال اللبناني الشريف المخلص لأرضه بشدة، الذي قُدِّر له أن يعيش تجربة لم يكن بحياته ليتصور خوضها!
أحقاً إن الأعاجيب لا تختار إلا الأنبياء؟ فماذا لو حدثت للأناس العاديين؟ كطارق على سبيل المثال!
هذا الرَّجُل، الذي لا يضطلع بالتكنولوجيا ضلاعته بحب الوطن، ولا يفقه خدع التصوير على الإطلاق، كما لا يعدو استخدام الهاتف المتواضع بين يديه سوى إجراء الاتصالات وفتح الكاميرا بعض الأحيان لالتقاط صور أبنائه ومَن يحب، أو المراسلة على تطبيق واتساب ولا يفضل الكتابة بل إرسال الرسائل الصوتية كي لا يرهق نفسه بعد إرهاق يوم طويل من العمل وحرصاً على وقت من ينتظره ليجيب، كان على موعد مع مأدبة عشاء، وأعجوبة!
العاشر من آب، بعد ستة أيام من ذاك التفجير الضخم الذي طال ميناء العاصمة اللبنانية وخلَّف عشرات الضحايا والأضرار الجِّسام، أنهى عمله واطمأن على أحوال منزله وسارع إلى ارتداء ملابسه كي يلبي دعوة العشاء في منزل شقيقته بقرية صليما، فقد كان متأخراً بطبيعة الحال، وبينما كان يقود سيارته وترافقه زوجته ونجلاه في الطريق الذي يشق أسفل مرتفعات الأرز العظيمة، استرعت اهتمامه تلك الغيمة الكبيرة التي علت بيروت، أبى إلا أن يقف جانباً ويترجل من سيارته كي يصور بهاتفه البسيط مشهد السماء، لقي اعتراضاً من عائلته في الحال بحكم تأخرهم على الموعد لكنه تعهد بأن ذلك لن يستغرق وقتاً طويلاً، وثَّق بعدسته الغيمة المهيبة، وغادر على الفور، وما أن أدرك وجهته وأدَّى تحية المحبة، عاجَلَ إلى تفقد هاتفه، وجعل يُكبِّرُ الصورة بلمس الشاشة كي يستمتع بحبال الضوء التي تسللت عبر فراغات الغيوم العشوائية، لتحط مقلتاه على مشهد نزل عليه كصاعقة خاطفة، لم يصدق ما يراه، فرك عينيه قليلاً ثم أمعن التركيز مجدداً، “معقول؟ أوجهٌ هذا الذي أرى أم أني أتوهم؟ أجل، هذا وجهٌ، يطفح بملامح الحزن وعينين كما لو أنهما اغرورقتا دمعاً وأنهكهما البكاءُ”… لقد صوَّرَ طارقُ بهاتفه حينها، وجهاً يعجُّ بحزن السَّماء!
ملامح وجه حزين، يشبه الكثير من وجوه اللبنانيين، توسط الصورة التي التقطتها يد العسكري اللبناني المتقاعد، قد تتعدد التحليلات والشروحات العلمية والنظريات التي توضح سبب ارتسام الوجوه والأشكال في السماء، ففي نظر العلماء هي ظاهرة، إلا إنَّ تفسيراً واحداً فقط لا غير لهذه الصورة بالتحديد وفقاً لِمُصوِّرِها… فبعد أن تعمَّد التأخر بالكشف عنها، لم يجد للوجه الحزين الذي اختار عدسته كي يستوطن هاتفه النقال سوى ما فسَّرَهُ بالقول: “تفاجأت بدايةً، لكني لم أتعجَّب، فعقب أيامٍ على ذاك الانفجار المجرم، والدماء التي أريقت ظلماً وقهراً وإهمالاً، وحزننا الذي لم يهدأ حتى اللحظة، ثمة من يشاطرنا البكاء، إن لم يكن في أرضي الطاهرة التي وطأتها أقدام الأنبياء وأنجبت القديسين والشرفاء، ففي السماء… بكينا وما زلنا، وتُشَاطِرُنا السماءُ، قد نكون أكثر شعوب العالم ذرفاً للدموع، ولعل حزننا لن يعرف كفاية أبدَ الدهر طويلا، لكن للظالمين يوماً لا شفيع لهم فيه ولا حراساً يذودوا عنهم العقاب العادل جراء ما ارتكبوه … وليشهد على كلامي هذا، وجهُ السماء”…
الملح، مادة رخيصة جدَّا في الأسواق حول العالم، فبضع ليرات في سوريا رغم التضخم تستطيع شراء ما يسد حاجتك منه لشهور عديدة، حتى أصبح في أيامنا هذه مثالًا يُضرب للتعبير عن انخفاض قيمة وسعر شيء معين في كثير من الثقافات نجدهم يقولون “بسعر الملح” أي أنه رخيص جدَّا، وعند وصف أحوال شخص معين بأنها شديدة السوء يقولون “يشحذ الملح” أي انه لا يملك شيئًا.
ولكن قديمًا عاش الملح عصورًا من الازدهار، وبلغ من المكانه الرفيعة ما خوله ليكون سببًا للكثير من الحروب والثورات عبر التاريخ، حتى أصبح قيمة رمزية ومدلولًا ثقافيَّا للكثير من المفاهيم عند البشر، فالعلاقة التي نشأت بين الإنسان والملح يصعب فهمها، وليس من السهل إدراكها ومعرفة السر الحقيقي وراء هذه الرمزية للملح عند البشر.
بدأت حكاية الملح قبل 10 آلاف سنة عندما اكتشف الإنسان قدرة الملح على حفظ اللحوم، ومن هذه الخطوة كانت بداية الحضارة الإنسانية عبر الزمن حتى اكتملت في أيامنا هذه على شكل الذكاء الصناعي.
استخدم الآشوريون الملح في التكتيك الحربي حيث كانوا ينثرون الملح على أراضي أعدائهم كلعنة تحل من السماء لجعلها غير صالحة للزراعة ويسهل عليهم دخولها.
وعند الفراعنة اعتنق الملح فكرة الخلود ودخل في أسرار التحنيط لحفظ الجسد في حياة أبدية، وبالرغم من هذه المكانة الرفيعة عند الفراعنة لم يشبع الملح غريزته السادية لينتقل إلى أوروبا فتُشَقّ له الطرقات الخاصة بين المدن الأوروبية ليسهل الحصول عليه، وبحسب بعض الباحثين قالوا إن الجنود الرومان كانوا يقضبون معاشاتهم بالملح، ومن أهم أسباب الثورة الفرنسية كانت الزيادة التي طالت أسعار الملح، وفي تلك الفترة كانت عقوبة السجن المؤبد لمن تثبت إدانته بتهريب الملح، ذلك ان “القانون ملح الأرض”.
وفي القرن السابع عشر في بريطانيا كانوا يختارون رجلًا ذا مكانه رفيعة للوقوف أمام جثة الميت لتناول قطعة من الخبز والملح لامتصاص ذنوب الميت، وبين مدينتي مدراس والاينداس بنى البريطانيون جدارا بطول 2300 ميل وفرزت بريطانيا 12 ألف جندي لحراسة الجدار لمنع تهريب الملح.
وفي عام 1930 كانت حفنة الملح بيد غاندي الشرارة التي أشعلت التمرد الشعبي الذي أدى إلى استقلال الهند عن بريطانيا .
وهناك في روسيا انتفاضة عرفت باسم “عصيان الملح” أيام القيصر أليكس الأول، وفي الحرب الأهلية الأمريكية كانت محاولة احتكار الملح نقطة قوة لدى الطرف المسيطر، وطبعا تكثر الحكايات بين الشعوب والقبائل عن الملح ورمزيته، وبرأيي ربما من هذا السياق التاريخي لمكانة الملح العميقة في الحضارات البشرية انتقلت إلى الشعوب العربية رمزية الخبز والملح التي تؤكد الصداقة والعلاقة القوية بين شخصين من القول “خبز وملح”، ولكن هذه حكاية الملح المختصرة التي بدأت قبل 10 آلاف سنة وانتهت مع حلول عصر الصناعة، حيث أصبح الملح في ذمة التاريخ هو ورمزيته وانحصر في جملة يتداولها الطهاة مفادها: “الملح حسب الرغبة”.
تسود في سوريا عمليات التحطيب والقطع الجائر للغطاء النباتي منذ بداية الحرب، حيث تم إعدام ملايين الأشجار الحراجية والمثمرة في جميع المناطق السورية، حتى وصلت غزوات الحطابين إلى الأشجار التي تشكل رمزية خاصة عند بعض السوريين.
في محافظة السويداء جنوب البلاد، تقع شجرة الأمنيات على طريق ظهر الجبل عند منطقة عين المرج، وهي شجرة بلوط معمرة اكتسبت رمزية خاصة وعُرفت عند الأهالي والأطفال بقدرتها على تحقيق الأحلام، يقصدونها بغرض تحقيق أمنياتهم المؤجلة كالحب والزواج أو طلبًا للوفرة المادية، ويعلِّقون على أغصانها قطعًا من ملابسهم أملًا بأن تنمو أحلامهم وتثمر كلما نمت أغصان الشجرة وأثمرت، فهي رمزٌ للأمل ومقصدٌ للراحة والاستجمام النفسي للهارب من ضيق الحياة وصعوباتها.
وبصرف النظر إذا كانت شجرة الأمنيات حقيقة أم بدعة، فلها في قلوب الناس مكانة لم تشفع لها عند قلوب الحطابين الذين قطعوا الشجرة واجتثوها، ضاربين بعرض الحائط أمنيات الناس وأحلام أطفالهم المعلقة على أغصانها، لتغدو شجرة الأمنيات في بزار الحطابين، وتتبعثر الأمنيات رغم براءتها، في بلدٍ كأنه أصبح يقول أن الحلم فيه مستحيل، والأمنية ممنوعة!
لا تخفى على أحد درجة التطور التي بلغتها البشرية والتي توّجها مؤخرًا الذكاء الصناعي بقدرته وإمكانياته اللامحدودة في تأمين الخدمات وتوفير سُبل الراحة والرفاهية بالكثير من المجالات، حيث يعيش الإنسان الآن موجة من الإنجازات التي توحي بأن المستقبل زمن قادم للعيش الرغيد.
لكن هذه الإنجازات بُنيت وتطورت على حساب البيئة وقوانينها التي بدأت تنذر بالكوارث والحوادث البيئية المتطرفة إذا استمر الإنسان في انتهاك البيئة وتخريبها، فجميع الدراسات والتقارير التي استهدفت دراسة المناخ ومستقبله على كوكب الأرض لم تبشر خيرًا ودقت ناقوس الخطر لمستقبل الإنسان على الكرة الأرضية.
ففي دراسة استهدفت تغير المناخ وأثره على صحة الإنسان، خلصت الدراسة إلى أن تغير المناخ يسبب الكثير من المتاعب الصحية بشكل مباشر، وأكد الخبراء أن لتغير المناخ أثرا كبيرا على انتقال الأمراض المعدية وخاصة الفيروسية منها.
وكشفت دراسة أخرى أجرتها منصة غلوبال سيتيزن المعنية بقضايا المناخ والفقر أن 40 في المئة من إجمالي المحاصيل الزراعية الصالحة للأكل عالمياً مهددة بالإنقراض نتيجة التغيرات المناخية.
وأوضحت دراسة غلوبال تشانغ بيولوجي إلى أن تغير المناخ سيؤدي إلى انخفاض قدرة المزارعين البدنية، والأحداث المتطرفة للطقس ستؤدي إلى إنخفاض إنتاجية العمل بنسبة 40 في المئة في نهاية هذا القرن.
وهناك دراسات عديدة تناولت تأثير المناخ السلبي على الاقتصاد العالمي وانهيار الشركات الكبيرة، وخصوصا شركات التأمين الكبرى، نتيجة تعويض المتضررين من الحداث البيئية مستقبلًا.
وجميع هذه الدراسات دعت العالم شعوبًا وحكومات إلى الوقوف أمام واجباتها البيئية من خلال حماية البيئة وقوانيها والتوقف عن تدمير النظم البيئية لتبقى الكرة الأرضية مكانًا صالحًا للعيش البشري والحيواني والنباتي قبل فوات الأوان.