أقلام الأرض

عرش الملح البائد

Published

on

الملح، مادة رخيصة جدَّا في الأسواق حول العالم، فبضع ليرات في سوريا رغم التضخم تستطيع شراء ما يسد حاجتك منه لشهور عديدة، حتى أصبح في أيامنا هذه مثالًا يُضرب للتعبير عن انخفاض قيمة وسعر شيء معين في كثير من الثقافات نجدهم يقولون “بسعر الملح” أي أنه رخيص جدَّا، وعند وصف أحوال شخص معين بأنها شديدة السوء يقولون “يشحذ الملح” أي انه لا يملك شيئًا.

ولكن قديمًا عاش الملح عصورًا من الازدهار، وبلغ من المكانه الرفيعة ما خوله ليكون سببًا للكثير من الحروب والثورات عبر التاريخ، حتى أصبح قيمة رمزية ومدلولًا ثقافيَّا للكثير من المفاهيم عند البشر، فالعلاقة التي نشأت بين الإنسان والملح يصعب فهمها، وليس من السهل إدراكها ومعرفة السر الحقيقي وراء هذه الرمزية للملح عند البشر.

بدأت حكاية الملح قبل 10 آلاف سنة عندما اكتشف الإنسان قدرة الملح على حفظ اللحوم، ومن هذه الخطوة كانت بداية الحضارة الإنسانية عبر الزمن حتى اكتملت في أيامنا هذه على شكل الذكاء الصناعي.

استخدم الآشوريون الملح في التكتيك الحربي حيث كانوا ينثرون الملح على أراضي أعدائهم كلعنة تحل من السماء لجعلها غير صالحة للزراعة ويسهل عليهم دخولها.

وعند الفراعنة اعتنق الملح فكرة الخلود ودخل في أسرار التحنيط لحفظ الجسد في حياة أبدية، وبالرغم من هذه المكانة الرفيعة عند الفراعنة لم يشبع الملح غريزته السادية لينتقل إلى أوروبا فتُشَقّ له الطرقات الخاصة بين المدن الأوروبية ليسهل الحصول عليه، وبحسب بعض الباحثين قالوا إن الجنود الرومان كانوا يقضبون معاشاتهم بالملح، ومن أهم أسباب الثورة الفرنسية كانت الزيادة التي طالت أسعار الملح، وفي تلك الفترة كانت عقوبة السجن المؤبد لمن تثبت إدانته بتهريب الملح، ذلك ان “القانون ملح الأرض”.

وفي القرن السابع عشر في بريطانيا كانوا يختارون رجلًا ذا مكانه رفيعة للوقوف أمام جثة الميت لتناول قطعة من الخبز والملح لامتصاص ذنوب الميت، وبين مدينتي مدراس والاينداس بنى البريطانيون جدارا بطول 2300 ميل وفرزت بريطانيا 12 ألف جندي لحراسة الجدار لمنع تهريب الملح.

وفي عام 1930 كانت حفنة الملح بيد غاندي الشرارة التي أشعلت التمرد الشعبي الذي أدى إلى استقلال الهند عن بريطانيا .

وهناك في روسيا انتفاضة عرفت باسم “عصيان الملح” أيام القيصر أليكس الأول، وفي الحرب الأهلية الأمريكية كانت محاولة احتكار الملح نقطة قوة لدى الطرف المسيطر، وطبعا تكثر الحكايات بين الشعوب والقبائل عن الملح ورمزيته، وبرأيي ربما من هذا السياق التاريخي لمكانة الملح العميقة في الحضارات البشرية انتقلت إلى الشعوب العربية رمزية الخبز والملح التي تؤكد الصداقة والعلاقة القوية بين شخصين من القول “خبز وملح”، ولكن هذه حكاية الملح المختصرة التي بدأت قبل 10 آلاف سنة وانتهت مع حلول عصر الصناعة، حيث أصبح الملح في ذمة التاريخ هو ورمزيته وانحصر في جملة يتداولها الطهاة مفادها: “الملح حسب الرغبة”.

آخر الأخبار

Exit mobile version