أقلام الأرض

حِكَمُ الأشجار

Published

on

بقلم: داهود أبو حسان

إنَّ الاهتمامَ الذي تحظى به الشجرةُ وهو بلا شكٍّ المصدر الأساسي لثمرها جودةً وكميةً يدل على إن العطاء الذي يقابله عطاء قد لا يكون مساوياً له ، بل فائضاً عنه ويتعداهُ في العديد من الحالات ، الابتسامة التي أُقابل بها شخصاً تعود إلي بابتسامة منه ربما تكون أكثر اشراقاً ، إن هذا ولا شك ينسحبُ على المعرفة التي أسعى من خلالها إلى تشاركها مع غيري وغالباً ما أجد بأن المعرفة شأنها شأن السعادة ، فإنك كلما أعطيت منها ازدادت لديك.

سأحدّثكم عن شجرة الزيتون وتجذّرها بحياة المجتمعات ، هي غذاءٌ ودواءٌ ودفْءٌ تجودُ به فحقَّ لها أن تكون رمزاً للسلام ، وفي مواسم القِطاف تتشكلُ مجموعاتٌ تلتف حول تلك الأشجار لجني ثمارها فتزهو المحبة وتعلو الضحكات ويكون لأحاديث القطاف وقعٌ يعانق القلب ويحاكي الروح ، هذه الأشجار محظوظة فهي لا تغادر أوطانها ، إنها وطنٌ لطيورٍ تحلقُ فوق ربوع الوطن غير عابئة برصاص قنص يسميه البعض هواية والبعض رياضة.

وهل من حكمة في أوراق الخريف المتساقطة من الأشجار ؟ نعم ، هي محكومةٌ بوقت تبقى فيه مزهوة في أغصانها وتنتهي رحلتها بحلول الخريف ، وهكذا هي العلاقات الإنسانية ، من الأفضلِ لنا الابتعاد عن الذين يطلبون منا دليلاً على محبتنا ، إن الصداقة التي لها ثمن هي أقرب ما تكون إلى العداوة ، فعمرها أقصر بكثير من عمر أصحابها ، كما إن المحبة لا تحيا إلا للمحبة ، والصداقة لا تحمل معنى صدقها الا بخلوِّها من الغايات وتجردها من المصالح ، إن كنا نجهلُ المكان الذي نقصده فإن كل الطرق ستقودنا إليه ولكن بعضها أطول من الآخر ، لذا ، أولى بنا تحديد وجهتنا قبل الشروع بالرحلة ، عمرنا كله ليس أكثر من رحلة وأيام العمر يكنسها الزمن ، كما يكنس ريحُ الخريف أوراق الشجر.

إلى حكمة أخرى ، يقولون بأن الأشجار المثمرة يقذفها البعض بالحجارة ، ومن هذا المنطلق أقول لمن يتعرضون للقذف بمثل تلك الحجارة المبادرة لجمعها وصفّها ورصّها وترتيبها ، إذ يمكنهم من خلالها بناء درع واقٍ وسدٍّ منيع يحول بينهم وبين الشعور بالإحباط في معظم الأحيان إن لم يكن مجملها ، البعض ممن يسيئون إليك يفتحون أمامك الباب على وسعه لسؤال ذاتك أين أخطأت أو لم تكن واضحاً فأُسيءَ فهمك ، حينها لا تُدِر ظهرك لذاتك لأن إدارة الظهر للمشكلة لا تسهم في وضع حلٍّ لها ، هذا من جهة ، من جهة ثانية فإن أولئك الذين قد يسيئون إليك يدفعوك دفعاً لأن تحكم ذاتك وتصفح … ومن يدري .. قد يتحوَّلون إلى أصدقاء مقربين مخلصين يدافعون عنك عندما يسيء الغير فهمك ، في عديد من الأحيان يسيء الغير فهمنا لضعفٍ في تعبيرنا وليس لسوءٍ في تفكيرهم ، حُسْنُ النوايا يُطِيلُ في عمر العلاقات ويبني الصداقات ويوطّد الأواصر ، قد تسهم الظروف بوصولنا لاستنتاجات خاطئة ، وعلينا إعادة النظر وتصحيح التقييم ومن الضرورة بمكان ألّا نستمر في التمسك بأخطاءٍ وعدم الاعتراف بها ، من أسوأ الأخطاء التمسك ببعضٍ منها بوحي المكابرة أو تلافي الانكسار ، قد يخطئُ من يظن بأن انتقاله من الجهة الخطأ للجهة المحقة ضعف ، ويبقى الاختلاف في وجهات النظر من أفضل الطرق لحوارٍ ينتهي بتفاهم وتفهم واتفاق !

الأشجار ، أحياءٌ تحيا في مملكة نباتية عالمية ، حيث الجذورُ تمتصُّ الغذاءَ وترسلها عبر الساق ليتم توزيعه بالعدل على الأوراق من خلال الأغصان ، هذه المملكة الرائعة لا تعاني فساداً وإساءةَ توزيع الغذاء وليس لديها أوراق تحظى بالوساطة كي تأخذ أكثر من غيرها ، لم تنقسم على ذاتها طوائفَ ومذاهباً ولم تُشعل حروباً بين بعضها ، بل تعيشُ باسقةً شامخةً متطلِّعةً للنور ، يقول بعض الباحثين بأن الأوراق التي تُصاب بالوهن تتوقف عن استيراد غذائها لكي ترسلها الأغصان إلى الأوراق الفاعلة بتمثيلها الكلوروفيلي ! النباتات التي يعيش جزءٌ منها في الظل وجزءٌ في النور يُلاحَظ بأن جزءَها المظلل ضعيف يتهاوى ، في حين يحيا جزءُها المغمور بالنور وارفاً مُخضرّاً مورقاً مزهراً ، قد تصح المقارنة إذا نظرنا للمعرفة على أنها نور يُبعِدُ الظلمة ويفتح الآفاقَ ، وحق لنا أن ندعو بعضنا للإبحار في محيط المعرفة الذي لا يضيقُ على من يطفو فوقَ سطحه أو يغوص في لجته كي تنفتح بينه وبين المعرفة أبوابٌ تزيل الغِشاوة عن البصر وتنير البصيرة وتزرع قناعة راسخة بأننا كبشر نتشارك مصائرنا ، تبقى المذاهب سامية مقدسة طالما أنها تدعوا للمحبة ، وبمجرد انصياع أصحابها لرغبةِ فَرْضِ معتقداتهم على الغير تصبح عازفةً لطبول الحرب ومؤجِّجَةً للفرقة والنزاع ، فأولى بنا احترام ما لدى غيرنا من قناعات قَدْرَ تمسكنا بما لدينا.

سأختم مضطراً بسبب صديقٍ ثقيلٍ يجثم على جسدي ويذكّرني بوجوده كلَّ حين ، إنّه السكري ، مرغم لا بطل رضخت لصداقته ومرافقته وتلافيت بكل قوتي ادارة الظهر له أو تجاهله ! حاولت ارضاء جشعه بكافة “الوصفات” الشعبية وشتى أنواع الأدوية ، نزولا عند رغبته وبعد ارتفاع نسبة الالتهاب في الكلية ودخولها في نعاس قاوم السبات اعتدت أخذ الانسولين السريع يوميا الساعة الثامنة ليلا ، انتهى الالتهاب وعاودت الكلية نشاطها ، كمغترب اكتفى وعاد لوطن وأحبة وثرى يعشق شذى عبيره ، انقضت السنوات وكأني في لجة البرمجة وأمواج الانشغال وضغط ازدحام الطرق لم يعجب الحال صديقي فأحال بحلاوته أيامي ولياليِّ مراراً وابتدأت عيناي بمعاتبتي فبات نظري لداخلي أقوى بكثير مما هو لما حولي ، فكان لزاماً عَلَيَّ الخضوع لمزيد من الفحوصات دماً وعيوناً ، طبيبي الذي أكنُّ له عظيم الإحترام وبخبرته التي تزيد على ثلاثين عاما كان قد نصحني عند فورة الالتهاب وكسل الكلية بتناول “الصمغ العربي” مؤكدا لي بأنه سيعيد الحيوية للكلية وسيخلصني من وخز الانسولين ، لكن قبل أن أكمل فإن تجربتي هذه هي تجربة شخصية ولا أنصح أحداً باتِّباعها دون مراجعة الطبيب ، ويُفضّل أن يكون اعتماد هذه التجربة بموجب وصفة طبية أو إرشادات خبير أعشاب مُعتمَد … بالعودة إلى الموضوع الرئيس فمع جملة ما وصفه من أدوية أخذت “الصمغ العربي” فزال الالتهاب وتعافت الكلية وعادت للعمل كشخص دفع آخر قسط من قرض بنكي طويل الأجل ، ودَّعتُ الأنسولين غير آسف على فراقه فقد كان ضيفا سمجا ثقيلَ الظل وعدت لأخذ الأقراص فقط !في حديثي مع الطبيب بآخر زيارة له قبيل اجراء عملية زرع عدسة في عيني اليسرى نتيجة الماء البيضاء ، ذكر لي بأن هناك العديد من الوصفات الشعبية لمرض السكري ولكنه وبحكم خبرته وتجاربه والحقائق المؤكدة المنبثقة عن حالات مرضاه على مدى ثلاثة عقود فإن أفضل وأصدق وصفة هي أوراق شجر الزيتون ، شريطة التقيد بأحكامها حيث سمع البعض عنها وهرع لغلي الأوراق وشرب الماء المصفى ولم يحصل على النتيجة ؟ انها ليست أية أوراق .. يؤكد الطبيب بأن الأوراق يجب أن تؤخذ فجراً من شجرةٍ تَمَّ ريها ليلا حيث تتركز العصارة في الأوراق ، و يقول بصدقٍ يمكن تبيانه من نبرة صوته بأن بعض مرضاه خفضوا من تعاطي الأقراص وانتظم السكر بشكل كلي لديهم ، إغلي الأوراق وضعها في زجاجة وتناول منها كوبا قبل الافطار وآخراً قبل النوم ، ليس أكثر … حين علمت هذه الوصفة وجدواها ، تألمت بشدة ، فسنوات عمري التي قضيتها في لؤلؤة الخليج ليس لدي شجرة زيتون واحدة حيث أقيم وأعمل ، في حين يوجد لدي في الوطن مئات الأشجار وبئر يرويها ويروي عطشي …. ولكن وكما يقال … “مابتكمل؟”

آخر الأخبار

Exit mobile version