ستة عشر عامًا مضت على التحقيق الصحفي الأول لي في مسيرتي المهنية والذي نُشر في صحيفة الأخبار اللبنانية بعدما أتاحت الأخيرةُ لي مشكورة فرصة التدرب إبّان دراستي الجامعية.
في ذاك الوقت، قلّة هم الصحافيون الذين امتلكوا هواتف ذكية تسهل عليهم المهام الميدانية، ولم يكن الإنترنت ميسّرًا كما في يومنا هذا متى يشاء المراسلون كي يستقوا معلوماتهم أو يرسلوا موادهم إلى أقسام التحرير عبر البريد الإلكتروني، فقط دفتر وقلم، وجولة في الشّوارع، والتحدث إلى الناس مباشرةً، لتجد من يتنمّر عليك لأنك ربما قد تكون مخبِرًا للحكومة على حد تعبيره، آخرون لا يكترثوا بإبداء رأيهم فالواقع بنظرهم لن يتغير بتحقيق صحفي أو مقال، والبعض ممّن يجدون في ذلك فرصة كي يصبوا جام غضبهم على ما يصفونه بالقصور الرّسمي والتحدّيات المعيشيّة المتفاقمة.
ولشدة ما أعشق بيروت، كنت في كثير من الأحيان أسير ممشطًا شوارعها، إمّا بحثًا عن وظيفة، أو للترفيه عن نفسي قليلًا بعد نهار طويل في العمل بنظام “المياومة” في المطاعم عقب دوام الجامعة، أي أتحصل على أجرة يومية لقاء خدماتي التي يطلبها المطعم ليوم واحد، ثم أعود أدراجي إلى غرفتي التي أستأجرها في حي “التنك” بوطى المصيطبة، لكني في هذا التحقيق، سرت على غير هدى وتعمدت اكتشاف شوارع لم تطأها قدماي سابقًا، هذه المدينة التي تمتاز بخصوصية فريدة ميزتها عن سائر مدن الدنيا، فهي لا تعرف الحلول الوسطى، إما جمالٌ مدنيٌّ مُتطرّف، أو فوضى عارمة تتجلى بمناطق الفقر والنزوح، أما العامل المشترك بينهما، هو سيارات الأجرة التي تجوب الجانبين ولا هم لأصحابها سوى الظفر بالأتعاب وخزان وقود ممتلئ وعيش كريم.
وبعد جولة دامت قرابة أربع عشرة ساعة، عدت إلى مقر الصحيفة سيرًا على الأقدام وقد نالني إرهاق شديد، ثم قررت أن أُعدّ لنفسي كوبًا من الشاي وأرتشف سيجارة قبل البدء بالكتابة، شعرت بدوارٍ بسيط فأنا لم أتناول شيئًا منذ الصباح، أسدلت رأسي قليلًا على طاولة المكتب لأستغرق بالنوم على الفور، وتصاعد على الإثر شخيري في قسم الاقتصاد بالصحيفة.
في هذا الوقت من المساء تكون المكاتب ملأى بالعاملين، مدراء تحرير يصرخون بالمحررين ليسرِّعوا بوتيرة الإنجاز، وزملاء يتبادلون الأحاديث السياسية، وآخرون يستهزئون ببعضهم أو يروون النكات التي تتسبب بضحكات هستيرية، وأدخنة التبغ في كل مكان؛ وعلى الرغم من كل هذا الصخب، غططت في نوم عميق سريعًا وجعلت أشخر كجرّار علقت أنصال محراثته بين الصخور التي يطمرها تراب الزّرع، كأن بي قد غبت عن الوعي وفقدتُّ إحساسي بكل شيء، ظلام حالك وسكون عميق.
لم يمضِ كثير من الوقت حتى شعرت برأسي يهتز على غير إرادة، كانت زميلة لي تعمل قبالتي تحاول إيقاظي بلطف، فتحت عيناي فوجدت وجهها اللطيف قد سُلِبَ من الجمال، وعيناها تتنبّهان رُعبًا، بينما دبَّت الخوفَ في قلبي معالمُها المُرعبة فَنَهَضتُّ منتصبًا وسرتُ خطوتين إلى الخلف علَّني أستوعب ما يحدث؛ سألتها:
“ما بالكِ؟”
قالت إنَّني كنت أشخر بعنف، وعندما حَاوَلَت إيقاظي لم أستجب، ثم تَوقَّفتُ عن الشخير والتنفس على حين غرَّة، وفق تعبيرها الطافح بالهلع، فَشَعَرَت بالرعب، ما جعلها عاجزة عن فعل شيء سوى إيقاظي بنكز رأسي، ذلك أن مدير التحرير يطلب تحقيقَ سيارات الأجرة لأنه يتزامن مع دعوات نقابة سائقي الأجرة والسائقين للاعتصام في بيروت بغرض الالتفات إلى مطالبهم، ولم أسمعه يناديني مذ طغى نومي على كل شيء، كما أن شخيري كان مزعجًا لدرجة أن بعض الزملاء بدأوا يشتكون، فَتَطَوعَت زميلتي الحسناء – لا أذكر اسمها في الحقيقة، ربما رشا – لإيقاظي وتنبيهي إلى طلبات مدير التحرير…
شرحتُ لها أني ذهبت إلى النقابة وسرتُ في أحياء بيروت لأكثر من 14 ساعة ثم عدت أدراجي، لم تصدق أنّي قطعت كل هذه المسافة سيرًا على الأقدام، قَدَّمَت لي قطعةً من الخبز الفرنسي – كرواسون بالزعتر – وأعدت كوبًا من الشاي مع النعنع الطازج، واقتَرَحَت أن أُملي عليها ما دونتُ في مفكرتي لتفرغها كتابةً على الحاسوب، رفضتُّ طلبها بتواضع وشكرتها على المبادرة ثم شرعتُ فورًا بكتابة التحقيق الذي استغرقني قرابة الساعتين، فخرجتُ بمادّةٍ مكتوبةٍ هي الأولى في مسيرتي المهنية، وحبذا لو كنت أملك كاميرا تعينني على تصوير تناقضات بيروت التي أختزلها بقلبي، وشكاوى النّاس، وزميلتي التي انتشلتني من غيبوبةٍ كادت أن تضيّع عليّ فرصة كتابة أول تحقيق صحفي في حياتي.
الملح، مادة رخيصة جدَّا في الأسواق حول العالم، فبضع ليرات في سوريا رغم التضخم تستطيع شراء ما يسد حاجتك منه لشهور عديدة، حتى أصبح في أيامنا هذه مثالًا يُضرب للتعبير عن انخفاض قيمة وسعر شيء معين في كثير من الثقافات نجدهم يقولون “بسعر الملح” أي أنه رخيص جدَّا، وعند وصف أحوال شخص معين بأنها شديدة السوء يقولون “يشحذ الملح” أي انه لا يملك شيئًا.
ولكن قديمًا عاش الملح عصورًا من الازدهار، وبلغ من المكانه الرفيعة ما خوله ليكون سببًا للكثير من الحروب والثورات عبر التاريخ، حتى أصبح قيمة رمزية ومدلولًا ثقافيَّا للكثير من المفاهيم عند البشر، فالعلاقة التي نشأت بين الإنسان والملح يصعب فهمها، وليس من السهل إدراكها ومعرفة السر الحقيقي وراء هذه الرمزية للملح عند البشر.
بدأت حكاية الملح قبل 10 آلاف سنة عندما اكتشف الإنسان قدرة الملح على حفظ اللحوم، ومن هذه الخطوة كانت بداية الحضارة الإنسانية عبر الزمن حتى اكتملت في أيامنا هذه على شكل الذكاء الصناعي.
استخدم الآشوريون الملح في التكتيك الحربي حيث كانوا ينثرون الملح على أراضي أعدائهم كلعنة تحل من السماء لجعلها غير صالحة للزراعة ويسهل عليهم دخولها.
وعند الفراعنة اعتنق الملح فكرة الخلود ودخل في أسرار التحنيط لحفظ الجسد في حياة أبدية، وبالرغم من هذه المكانة الرفيعة عند الفراعنة لم يشبع الملح غريزته السادية لينتقل إلى أوروبا فتُشَقّ له الطرقات الخاصة بين المدن الأوروبية ليسهل الحصول عليه، وبحسب بعض الباحثين قالوا إن الجنود الرومان كانوا يقضبون معاشاتهم بالملح، ومن أهم أسباب الثورة الفرنسية كانت الزيادة التي طالت أسعار الملح، وفي تلك الفترة كانت عقوبة السجن المؤبد لمن تثبت إدانته بتهريب الملح، ذلك ان “القانون ملح الأرض”.
وفي القرن السابع عشر في بريطانيا كانوا يختارون رجلًا ذا مكانه رفيعة للوقوف أمام جثة الميت لتناول قطعة من الخبز والملح لامتصاص ذنوب الميت، وبين مدينتي مدراس والاينداس بنى البريطانيون جدارا بطول 2300 ميل وفرزت بريطانيا 12 ألف جندي لحراسة الجدار لمنع تهريب الملح.
وفي عام 1930 كانت حفنة الملح بيد غاندي الشرارة التي أشعلت التمرد الشعبي الذي أدى إلى استقلال الهند عن بريطانيا .
وهناك في روسيا انتفاضة عرفت باسم “عصيان الملح” أيام القيصر أليكس الأول، وفي الحرب الأهلية الأمريكية كانت محاولة احتكار الملح نقطة قوة لدى الطرف المسيطر، وطبعا تكثر الحكايات بين الشعوب والقبائل عن الملح ورمزيته، وبرأيي ربما من هذا السياق التاريخي لمكانة الملح العميقة في الحضارات البشرية انتقلت إلى الشعوب العربية رمزية الخبز والملح التي تؤكد الصداقة والعلاقة القوية بين شخصين من القول “خبز وملح”، ولكن هذه حكاية الملح المختصرة التي بدأت قبل 10 آلاف سنة وانتهت مع حلول عصر الصناعة، حيث أصبح الملح في ذمة التاريخ هو ورمزيته وانحصر في جملة يتداولها الطهاة مفادها: “الملح حسب الرغبة”.
تسود في سوريا عمليات التحطيب والقطع الجائر للغطاء النباتي منذ بداية الحرب، حيث تم إعدام ملايين الأشجار الحراجية والمثمرة في جميع المناطق السورية، حتى وصلت غزوات الحطابين إلى الأشجار التي تشكل رمزية خاصة عند بعض السوريين.
في محافظة السويداء جنوب البلاد، تقع شجرة الأمنيات على طريق ظهر الجبل عند منطقة عين المرج، وهي شجرة بلوط معمرة اكتسبت رمزية خاصة وعُرفت عند الأهالي والأطفال بقدرتها على تحقيق الأحلام، يقصدونها بغرض تحقيق أمنياتهم المؤجلة كالحب والزواج أو طلبًا للوفرة المادية، ويعلِّقون على أغصانها قطعًا من ملابسهم أملًا بأن تنمو أحلامهم وتثمر كلما نمت أغصان الشجرة وأثمرت، فهي رمزٌ للأمل ومقصدٌ للراحة والاستجمام النفسي للهارب من ضيق الحياة وصعوباتها.
وبصرف النظر إذا كانت شجرة الأمنيات حقيقة أم بدعة، فلها في قلوب الناس مكانة لم تشفع لها عند قلوب الحطابين الذين قطعوا الشجرة واجتثوها، ضاربين بعرض الحائط أمنيات الناس وأحلام أطفالهم المعلقة على أغصانها، لتغدو شجرة الأمنيات في بزار الحطابين، وتتبعثر الأمنيات رغم براءتها، في بلدٍ كأنه أصبح يقول أن الحلم فيه مستحيل، والأمنية ممنوعة!
لا تخفى على أحد درجة التطور التي بلغتها البشرية والتي توّجها مؤخرًا الذكاء الصناعي بقدرته وإمكانياته اللامحدودة في تأمين الخدمات وتوفير سُبل الراحة والرفاهية بالكثير من المجالات، حيث يعيش الإنسان الآن موجة من الإنجازات التي توحي بأن المستقبل زمن قادم للعيش الرغيد.
لكن هذه الإنجازات بُنيت وتطورت على حساب البيئة وقوانينها التي بدأت تنذر بالكوارث والحوادث البيئية المتطرفة إذا استمر الإنسان في انتهاك البيئة وتخريبها، فجميع الدراسات والتقارير التي استهدفت دراسة المناخ ومستقبله على كوكب الأرض لم تبشر خيرًا ودقت ناقوس الخطر لمستقبل الإنسان على الكرة الأرضية.
ففي دراسة استهدفت تغير المناخ وأثره على صحة الإنسان، خلصت الدراسة إلى أن تغير المناخ يسبب الكثير من المتاعب الصحية بشكل مباشر، وأكد الخبراء أن لتغير المناخ أثرا كبيرا على انتقال الأمراض المعدية وخاصة الفيروسية منها.
وكشفت دراسة أخرى أجرتها منصة غلوبال سيتيزن المعنية بقضايا المناخ والفقر أن 40 في المئة من إجمالي المحاصيل الزراعية الصالحة للأكل عالمياً مهددة بالإنقراض نتيجة التغيرات المناخية.
وأوضحت دراسة غلوبال تشانغ بيولوجي إلى أن تغير المناخ سيؤدي إلى انخفاض قدرة المزارعين البدنية، والأحداث المتطرفة للطقس ستؤدي إلى إنخفاض إنتاجية العمل بنسبة 40 في المئة في نهاية هذا القرن.
وهناك دراسات عديدة تناولت تأثير المناخ السلبي على الاقتصاد العالمي وانهيار الشركات الكبيرة، وخصوصا شركات التأمين الكبرى، نتيجة تعويض المتضررين من الحداث البيئية مستقبلًا.
وجميع هذه الدراسات دعت العالم شعوبًا وحكومات إلى الوقوف أمام واجباتها البيئية من خلال حماية البيئة وقوانيها والتوقف عن تدمير النظم البيئية لتبقى الكرة الأرضية مكانًا صالحًا للعيش البشري والحيواني والنباتي قبل فوات الأوان.